السبت، 13 فبراير 2021

العدة شرح العمدة كتاب الجنايات

العدة شرح العمدة

  {هذه الكتب رفعناها هنا للتدبر والمتابعة والدراسة والتعقيبات وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه }ومع هذا هو اجتهاد بشري قابل للصواب والخطأ  فليتدبر كل حاله ونفسه مع ربه

كتاب الجنايات (1) القتل بغير حق ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: العمد، وهو أن يقتله بجرح أو فعل يغلب على الظن أنه يقتله كضربة بمثقل كبير أو تكريره بصغير أو إلقائه من شاهق أو خنقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
[كتاب الجنايات]
مسألة 1: (القتل بغير حق ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها العمد) المحض، وهو نوعان:
أحدهما: أن يضربه بمحدد، وهو ما يقطع به ويدخل في البدن كالسيف والسكين والنشاب وما يجرح بحده، وإن كان زجاجا أو خشبا أو قصبا فهذا كله إذا جرح به جرحا كبيرا فمات فهو قتل عمد لا خلاف فيه بين أهل العلم فيما علمناه، فأما الجرح الصغير كشرطة حجام أو غرزة بإبرة أو شوكة نظرت: فإن كان ذلك في مقتل كالعين والفؤاد والصدغ فمات فهو عمد؛ لأن الإصابة بذلك في المقتل كالإصابة بالسكين في غير مقتل، وإن كان في غير مقتل نظرت: فإن كان قد بالغ في إدخالها في البدن فهو كالجرح الكبير، وإن غرزه بها غرزا يسيرا أو جرحه بالكبير جرحا لطيفا كشرطة الحجام فما دونها في غير مقتل فقال أصحابنا: إن بقي فيها حتى مات ففيه القود؛ لأن الظاهر أنه مات منه، وإن مات في الحال ففيه وجهان: أحدهما: لا قصاص، قال ابن حامد: لأن الظاهر أنه لم يمت منه؛ والثاني: فيه القصاص؛ لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة ظن القتل به، بدليل ما لو قطع أنملته؛ ولأن في البدن مقاتل خفية وهذا له سراية ومور فأشبه الجرح الكبير.
الثاني: أن يقتله بما ليس بمحدد بما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله، فهذا عمد موجب للقصاص أيضا، وقال أبو حنيفة: لا قود في هذا، إلا أن يكون قتله بالنار، وعنه في مثقل الحلائل روايتان، واحتجوا بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل» ، فسماه عمد الخطأ، وأوجب فيه الدية دون القصاص؛ ولأن العمد لا يمكن اعتباره بنفسه فيجب ضبطه بمظنته، ولا يمكن ضبطه بما يقتل غالبا؛ لأن ذلك يختلف، وهو مستقصى بما لو جرحه جرحا

(1/525)


أو تحريقه أو تغريقه أو سقيه سما أو الشهادة عليه زورا بما يوجب قتله أو الحكم عليه به، أو نحو هذا قاصدا عالما بكون المقتول آدميا معصوما، فهذا يخير الولي فيه بين القود والدية لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفديه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
صغيرا لا يقتل مثله غالبا؛ كقطع شحمة أذنه وأنملته وغرزة بإبرة فوجب ضبطه بالجارح، ولنا قوله سبحانه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} [الإسراء: 33] ، وروى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين حجرين» متفق عليه، وروى أبو هريرة قال: قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يودى وإما أن يقاد» متفق عليه؛ ولأنه يقتل غالبا فوجب به القصاص كالمحدد، وأما الحديث فمحمول على المثقل الصغير؛ لأنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحجر فدل على أنه أراد الصغير، وقولهم لا يمكن ضبطه ممنوع، وصغير المحدد قد تقدم الكلام فيه.
إذا ثبت هذا فمن صور المسألة أن يضربه بمثقل كبير سواء كان من حديد كاللت والسندان والمطرقة، أو حجر ثقيل أو خشبة كبيرة، أو يلقي عليه حائطا أو صخرة عظيمة أو ما أشبهه فيموت بذلك ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبا، ومنها أن يضربه بمثقل صغير، أو يلكزه بيده، فإن كان في مقتل، أو في حال ضعف من المضروب بحيث تقتله تلك الضربة غالبا، أو كرر الضرب حتى قتله، أو عصر خصيتيه عصرا شديدا فمات منه ففيه القود لذلك، ومنها: أن يلقيه من شاهق كرأس جبل أو حائط عال فهو عمد أيضا، ومنها: أن يمنع خروج نفسه إما أن يجعل في عنقه خراطة ثم يعلقه في خشبة، بحيث يرتفع عن الأرض فيختنق، أو يخنقه وهو على الأرض بيده أو بمنديل أو حبل، أو يغمه بوسادة أو شيء يضعه على فمه وأنفه مدة فيموت، فإن فعله مدة يموت فيها غالبا فمات فهو عمد وفيه القصاص، ومنها: أن يلقيه في نار أو ماء لا يمكنه التخلص من ذلك لكثرة الماء والنار، أو لمنعه إياه من الخروج، أو لضعفه عن الخروج، فهو عمد يقتل غالبا، ومنها: أن يسقيه سما أو يطعمه قاتلا فيموت به، فهو عمد إذا كان مثله يقتل غالبا، ومنها: أن يشهد رجلان على رجل بما يوجب قتله، فيقتل بشهادتهما ثم رجعا واعترفا بتعمد القتل، وجب عليهما القتل قصاصا؛ لأن رجلين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل أنه سرق فقطعه، ثم رجعا عن شهادتهما، فقال علي: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما، وغرمهما دية

(1/526)


(2) وإن صالح القاتل عن القود بأكثر من دية جاز)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
يده؛ ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالبا فأشبه المكره، ومنها: إذا حكم الحاكم على رجل بالقتل ظلما عالما بذلك متعمدا قتله، فقتل واعترف بذلك وجب القصاص عليه والخلاف فيه كالشاهدين. وفي هذه الصور جميعها يتخير الولي بين القود والدية؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يودى وإما يقاد» متفق عليه، وروى أبو شريح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية» رواه أبو داود، وغيره. وروي عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن موجب العمد القصاص عينا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل عمدا فهو قود» (رواه أبو داود) ؛ ولأنه بدل متلف فكان معينا كسائر المتلفات، والأول أولى لما سبق من الأحاديث؛ لقوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] ، أوجب الاتباع بمجرد العفو عن القصاص، وأما الخبر فالمراد به وجوب القصاص، ونحن نقول به، ويخالف القتل سائر المتلفات؛ لأن بدلها لا يختلف بالقصد وعدمه، والقتل بخلافه، وللشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كهاتين الروايتين، فإن قلنا موجبة للقصاص عنها فله العفو مطلقا، وله العفو على مال، فإن عفا بشرط المال وجبت الدية، وإن عفا مطلقا لم يجب شيء، وإن قلنا الواجب أحد الأمرين لا بعينه فعفا عن القصاص مطلقا أو إلى الدية وجبت الدية؛ لأن الواجب غير متعين، فإذا ترك أحدهما تعين الآخر، وإن اختار الدية سقط القصاص، وإن اختار القصاص تعين، وهل له بعد ذلك العفو على الدية؟ قال القاضي: له ذلك؛ لأن القصاص أعلى فكان له الانتقال إلى الأدنى ويكون بدلا عن القصاص وليس الذي وجب بالقتل، ويحتمل أنه ليس ذلك؛ لأنه أسقطها باختياره فلم يعد إليها.

مسألة 2: (وإن صالح القاتل عن القود بأكثر من الدية جاز) قال شيخنا: لا أعلم

(1/527)


(الثاني: شبه العمد، وهو أن يتعمد الجناية عليه بما لا يقتله غالبا، فلا قود فيه والدية على العاقلة)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
فيه خلافا، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم، وذلك لتشديد القتل» أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، وروي أن هدبة بن خشرم قتل قتيلا، فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبى ذلك وقتله؛ ولأنه عوض عن غير مال فجاز الصلح عنه بما اتفقوا عليه كالصداق وعوض الخلع؛ ولأنه صلح عن ما لا يجري فيه الربا فأشبه الصلح عن العروض.
(الثاني: شبه العمد، وهو أن يتعمد الجناية عليه بما لا يقتله غالبا، فلا قود فيه، والدية على العاقلة) ، وسمي شبه العمد؛ لأنه قصد الضرب وأخطأ في القتل، ويسمى خطأ العمد وعمد الخطأ، وقال أبو بكر: تجب به الدية في مال القاتل؛ لأنه موجب فعل عمد فكان في مال الفاعل كسائر الجنايات، ولنا ما روى أبو هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها» متفق عليه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن في قتيل خطأ العمد وقتيل السوط والعصا مائة من الإبل» فسماه خطأ العمد وأوجب فيه الدية لا القصاص، وفي لفظ رواه أبو داود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه» .

(1/528)


(الثالث: الخطأ، وهو نوعان: أحدهما: أن يفعل ما لا يريد به المقتول فيفضي إلى قتله
(3) أو يتسبب إلى قتله بحفر بئر أو نحوه، وقتل النائم والصبي والمجنون فحكمه حكم شبه العمد النوع الثاني: أن يقتل مسلما في دار الحرب يظنه حربيا، أو يقصد رمي صف الكفار فيصيب سهمه مسلما، ففيه كفارة بلا دية؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]
باب شروط وجوب القصاص واستيفائه
ويشترط لوجوبه أربعة شروط: أحدها: كون القاتل مكلفا، فأما الصبي والمجنون فلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
(الثالث: الخطأ، وهو نوعان: أحدهما: أن يفعل فعلا لا يريد به المقتول فيفضي إلى قتله) قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره ولا أعلمهم يختلفون فيه، فهذا الضرب من الخطأ تجب به الدية على العاقلة والكفارة في مال القاتل بغير خلاف علمناه بينهم، بدليل قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] .

مسألة 3: (أو يتسبب إلى القتل بحفر بئر، وقتل النائم والمجنون والصبي فحكمه حكم شبه العمد) يعني أنه لا يوجب القصاص وإنما يوجب الدية، ودليله ما سبق.
(النوع الثاني: أن يقتل مسلما في دار الحرب يظنه حربيا، أو يقصد رمي صف الكفار فيصيب سهمه مسلما، ففيه كفارة بلا دية؛ لقوله سبحانه: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، وعنه تجب فيه الدية والكفارة؛ لقوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، ولنا ما سبق من الآية ولم يذكر دية، وتركه لذكرها في هذا النوع مع ذكرها في الذي قبله دليل ظاهر أنها لا تجب، وذكره لهذا قسما مفردا دليل على أنه لم يدخل في عموم الآية.

[باب شروط وجوب القصاص واستيفائه]
(ويشترط لوجوب القصاص أربعة شروط: أحدها: أن يكون القاتل مكلفا، فأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى

(1/529)


قصاص عليهما الثاني: كون المقتول معصوما فإن كان حربيا أو مرتدا أو قاتلا في المحاربة أو زانيا محصنا أو قتله دفعا عن نفسه أو ماله أو حرمته فلا ضمان فيه الثالث: كون المقتول مكافئا للجاني، فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم ذكرا كان أو أنثى
(4) ولا يقتل حر بعبد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» (رواه أحمد) . وحكم قتلهما حكم قتل الخطأ؛ لأن عمدهما خطأ لكونهما لا يصح منهما قصد صحيح بدليل أنه لا يصح إقرارهما، ولهذا لما قصد الصيد ولم يقصد آدميا فوقع في الآدمي فقتله فلا قصاص عليه كذا هاهنا.
(الثاني: كون المقتول معصوما، فإن كان حربيا أو مرتدا أو قاتلا في المحاربة أو زانيا محصنا أو قتله دفعا عن نفسه أو ماله أو حرمته فلا ضمان فيه) ؛ لأن دماءهم مهدرة فلا يقتل قاتلهم كما لو كان المقتول حربيا، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق» (رواه أبو داود) ، والصائل متعد أهدر دم نفسه فصار كالقاتل في المحاربة؛ ولأنه قتل الصائل لدفع شره فلا يجب فيه ضمان كقتل الباغي، والصائل من طلب نفسه أو ماله أو حرمته أو زوجته أو بعض أقاربه من نسائه.
(الثالث: كون المقتول مكافئا للقاتل فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم إجماعا ذكرا كان أو أنثى) ، وعنه لا يقتل الذكر بالأنثى وتعطى نصف الدية، ذكرها أبو الخطاب؛ لأن ديتها على النصف من دية الذكر، والأولى أولى؛ لقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] .

مسألة 4: (ولا يقتل حر بعبد) روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وزيد وابن الزبير، وقال أصحاب الرأي: يقتل به لعموم النصوص، وقوله: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» (رواه أبو داود) ؛ ولأنه معصوم قتل ظلما فيجب القصاص على قاتله كالحرين والعبدين،

(1/530)


(5) ولا مسلم بكافر؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مؤمن بكافر»
(6) ويقتل الذمي بالذمي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
ولما روي عن علي أنه قال: من السنة أن لا يقتل حر بعبد، وعن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل حر بعبد» رواه الدارقطني، ولأنهما شخصان لا يجري القصاص بينهما في الأطراف فلا يجري بينهما في النفس كالأب مع ابنه؛ ولأنه منقوص بالرق فلا يقتل به الحر كالمكاتب الذي ملك ما يؤدى عنه، والعمومات مخصوصة بما ذكرنا.

مسألة 5: (ولا يقتل مسلم بكافر) روي ذلك عن خمسة من الصحابة، وقال أصحاب الرأي: يقتل بالذمي، واحتجوا بقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، وروى ابن السلماني أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقاد مسلما بذمي، وقال: «أنا أحق من وفى بذمته» ؛ ولأنه معصوم قتل ظلما فيجب على قاتله القصاص كالمسلم، ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يقتل مؤمن بكافر» رواه الإمام أحمد بإسناده وأبو داود، وروى البخاري، وأبو داود: " لا يقتل مسلم بكافر "، وروى الإمام أحمد بإسناده عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من السنة لا يقتل مؤمن بكافر؛ ولأنه منقوص بالكفر فلم يقتل به المسلم كالمستأمن، والعمومات مخصوصة بحديثنا، وحديثهم قال أحمد: ليس له إسناد، وقال: وهو مرسل، قال الدارقطني: ابن السلماني ضعيف إذا أسند، فكيف إذا أرسل، والمعنى في المسلم أنه مكان المسلم بخلاف الذمي.

مسألة 6: (ويقتل الذمي بالذمي) سواء اتفقت أديانهما أو اختلفت، نص عليه؛ لأنهما تكافئا في العصمة بالذمة ونقيضه الكفر فجرى القصاص بينهما كما لو تساوى دينهما.

(1/531)


(7) ويقتل الذمي بالمسلم
(9) ويقتل العبد بالعبد، ويقتل الحر بالحر
الرابع: أن لا يكون أبا للمقتول، فلا يقتل والد بولده وإن سفل، والأبوان في هذا سواء
(الرابع: أن لا يكون أبا للمقتول، فلا يقتل الوالد بولده وإن سفل) ؛ لما روى عمر بن الخطاب وابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل والد بولده» رواه ابن ماجه، وذكره ابن عبد البر، وقال: هو حديث مشهور عند أهل العلم في الحجاز والعراق مستفيض عندهم، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه حتى يكون الإسناد فيه مع شهرته تكلفا؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أنت ومالك لأبيك» (رواه أبو داود) ، وقضية هذه الإضافة تمليكه إياه فإذا لم تثبت حقيقة الملك بقيت الإضافة شبهة في درء القصاص؛ لأنه يدرأ بالشبهات، (والأم كالأب) لأنها والدة أشبهت الأب، والجد وإن علا كالأب سواء كان من قبل الأب أو الأم؛ لأنه والد فيدخل في عموم الخبر، ولأنه حكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب والبعيد كالمحرمية والعتق عليه إذا ملكه.

(10) ولو كان ولي الدم ولدا أو له فيه حق وإن قل لم يجب القود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 7: (ويقتل الذمي بالمسلم) ؛ لأنه إذا قتل بمثله فلأن يقتل بمن هو فوقه أولى.

مسألة 8: (ويقتل العبد بالحر) لذلك.
1 -
مسألة 9: (ويقتل العبد بالعبد) ؛ لأنه مكافئ له، وعنه لا يقتل به إلا أن يكون مساويا له في القيمة؛ لأن العبيد أموال فأشبهوا البهائم، والأول أولى لقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، الآية، وهذا نفس فيقتل به، وقال سبحانه: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] .

مسألة 10: (ولو كان ولي الدم ولدا أو له فيه حق وإن قل لم يجب القود) ، فلو كان رجل له زوجة وله منها ابن فقتل أحد الزوجين الآخر لم يجب القصاص؛ لأنه لو ثبت لثبت

(1/532)


فصل: ويشترط لجواز استيفائه شروط ثلاثة: أحدها: أن يكون لمكلف، فإن كان لغيره أو له فيه حق - وإن قل - لم يجز استيفاؤه
(12) وإن استوفى غير المكلف حقه بنفسه أجزأ ذلك الثاني: اتفاق جميع المستحقين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
للابن، والابن لا يجب له القصاص على والده؛ لأنه إذا لم يجب بالجناية عليه فلأن لا يجب عليه بجناية على غيره أولى.

[فصل في شروط استيفاء القصاص]
(فصل: ويشترط لجواز استيفائه شروط ثلاثة: أحدها: أن يكون لمكلف، فإن كان لغيره أو له فيه حق - وإن قل - لم يجز استيفاؤه) ، أما إذا ثبت القصاص لمكلف فإن له استيفاءه كما له استيفاء جميع حقوقه، وإن ثبت لغير مكلف كقصاص ثبت لصغير، كصغير قتلت أمه وليست زوجة لأبيه فالقصاص للصغير ليس لأبيه استيفاؤه، وذكر أبو الخطاب فيه رواية أنه يجوز؛ لأنه أحد بدلي النفس فكان للأب استيفاؤه كالدية، ولنا أنه لا يملك إيقاع الطلاق بزوجته فلا يملك استيفاء القصاص كالوصي؛ ولأن القصد التشفي ودرك الغيظ، وذلك لا يحصل باستيفاء الولي، ويخالف الدية فإن الغرض يحصل باستيفاء الأب لها فافترقا.
1 -
مسألة 11: وإن ثبت لمكلف وغيره كصبي أو مجنون فإنه ليس للمكلف استيفاؤه حتى يبلغ الصبي أو يفيق المجنون، وعنه رواية أخرى للمكلف استيفاؤه؛ لأن الحسن بن علي رضي الله عنه قتل ابن ملجم قصاصا وفي الورثة صغار فلم ينكر ذلك؛ ولأن ولاية القصاص عبارة عن استحقاق استيفائه وليس للصغير هذه الولاية، ولنا أنه قصاص غير متحتم ثبت لجماعة غير معينين فلم يجز لأحدهم استيفاؤه استقلالا كما لو كان بين حاضر وغائب، أو أحد بدلي النفس فلم ينفرد به بعضهم كالدية، فأما ابن ملجم فقد قيل: إنه قتله لكفره؛ لأنه قتل عليا مستبيحا دمه معتقدا كفره، وقيل: لسعيه في الأرض بالفساد وإظهاره السلاح فيكون قتله متحتما إلى الإمام، وكان الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الإمام، ولذلك لم ينتظر الغائبين، وبالاتفاق يجب انتظارهم في القصاص، وإن فعله قصاصا فقد اتفقنا على تركه فكيف يحتج به.

مسألة 12: (وإن استوفى غير المكلف حقه بنفسه أجزأ ذلك) ؛ لأنه أتلف حق نفسه بنفسه فأشبه ما لو أكل طعام نفسه وكما لو أتلف الوديعة أو شيئا من بقية أمواله.
(الشرط الثاني: اتفاق جميع المستحقين على استيفائه) ؛ لأنه حق لجميعهم فلم يكن

(1/533)


على استيفائه
(13) فإن لم يأذن فيه بعضهم أو كان فيهم غائب لم يجز استيفاؤه
(14) فإن استوفاه بعضهم فلا قصاص عليه، وعليه بقية ديته له ولشركائه حقهم في تركة الجاني،
(15) ويستحق القصاص كل من يرث المال على قدر مواريثهم)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
لبعضهم الاستقلال به كما لو كان بين حاضر وغائب فإنه لا يجوز للحاضر الاستيفاء حتى يحضر الغائب فيوافقه على الاستيفاء منه.

مسألة 13: (فإن لم يأذن فيه بعضهم أو كان فيهم غائب لم يجز استيفاؤه) ؛ لذلك.

مسألة 14: فإن استوفاه بعضهم) بغير إذن شريكه (فلا قصاص عليه) ؛ لأنه مشارك في استحقاق القتل فأسقط القصاص كما لو كان مشاركا في ملك الجارية ووطئها.
إذا ثبت هذا فإن للولي الذي لم يقتل قسطه من الدية؛ لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره، فهو كما لو مات القاتل، وأما القاتل فقد استوفى حقه وعليه قسط شريكه من الدية؛ لأنه استوفى جميع النفس وليس له إلا بعضها، وهل يرجع شريكه عليه بما استحقه أو يرجع إلى مال القاتل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع على شريكه؛ لأنه أتلف حقهما جميعا، فكان الرجوع عليه بعوض نصيبه كما لو كانت لهما وديعة فأتلفها.
والثاني: يرجع في مال القاتل، ثم يرجع ورثة القاتل على قاتله؛ لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره فوجبت له الدية في مال القاتل كما لو قتله أجنبي، وفارق الوديعة فإن أجنبيا لو أتلفها كان الرجوع عليه فكذلك شريكه، وهاهنا بخلافه.

مسألة 15: (ويستحق القصاص كل من يرث المال على قدر مواريثهم) سواء كانوا من ذوي الأنساب أو ذوي الأسباب، وعن مالك أنه موروث العصبات خاصة، وهو وجه لأصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه ثبت لدفع العار فاختص بالعصبات كولاية النكاح، ولهم وجه ثالث: أنه لذوي الأنساب خاصة؛ لأن الزوجة تزول بالموت، ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا» (رواه الترمذي) ، وروى زيد بن وهب أن عمر أتى برجل قتل قتيلا، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول، وهي أخت القاتل: قد عفوت عن حقي، فقال عمر: الله أكبر، عتق القتيل. رواه أبو داود؛ ولأن من ورث الدية ورث القصاص كالعصبات؛ وما ذكروه لا يصح؛ لأنه

(1/534)


الثالث: الأمن من التعدي في الاستيفاء، فلو كان الجاني حاملاً لم يجز استيفاء القصاص منها في نفس ولا جرح ولا استيفاء حد منها، حتى تضع ولدها ويستغني عنها
فصل (16) ويسقط بعد وجوبه بأمور ثلاثة: أحدها: العفو عنه أو عن بعضه، فإن عفا بعض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
ثبت للصغار والمجانين، بخلاف ولاية النكاح، وزوال الزوجية لا يمنع الميراث كما لم يمنع من الدية.
(الثالث: الأمن من التعدي في الاستيفاء، فلو كان الجاني حاملا لم يجز استيفاء القصاص منها في نفس ولا جرح حتى تضع ولدها ويستغني عنها) ؛ لقول الله سبحانه: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] ، وقتل الحامل قتل لغير القاتل فيكون إسرافا، وروى ابن ماجه بإسناده عن جماعة منهم شداد بن أوس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قتلت المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا وحتى تكفل ولدها، وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها» وهذا نص، وليس في المسألة اختلاف بين أهل العلم فيما نعلم، وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبن؛ لأن الولد لا يعيش إلا به في الغالب: ثم إن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى تفطمه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للغامدية: " «اذهبي حتى ترضعيه» (رواه مسلم) ، وفي حديث عبد الرحمن بن غنم: «وحتى تكفل ولدها» ، ولأنه لما أخر القتل لحفظه وهو حمل فلأن يؤخر وهو ولد لحفظه أولى، فأما إن وجدت من يرضعه جاز قتلها؛ لأنه يستغني عن الأم، وإن وجد من ترضعه مترددة أو جماعة يتناوبنه أو بهيمة يشرب من لبنها جاز قتلها أيضا، ويستحب للولي أن يؤخر قتل الأم؛ لأن على الولد ضررا في اختلاف اللبن عليه وشرب لبن البهيمة.

مسألة 16: (ويسقط بعد وجوبه بأمور ثلاثة: أحدها: العفو عنه أو عن بعضه، فلو عفا بعض الورثة عن حقه أو عن بعضه سقط كله وللباقين حقهم من الدية) ، أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص وأنه أفضل، ودليله قوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] ، وقال بعد قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]

(1/535)


الورثة عن حقه أو عن بعضه سقط كله وللباقين حقهم من الدية
(18) وإن كان العفو على مال فله حقه من الدية، وإلا فليس له إلا الثواب الثاني: أن يرث القاتل أو بعض ولده شيئاً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وروى أنس قال: «ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو» رواه أبو داود؛ ولأنه حق له تركه فجاز ذلك وكان أفضل من الاستيفاء كسائر الحقوق.
إذا ثبت هذا فإن القصاص ثبت لجميع الورثة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا» وروى زيد بن وهب أن عمر أتي برجل قتل قتيلا، فقالت امرأة المقتول - وهي أخت القاتل - قد عفوت عن حقي، فقال عمر: الله أكبر عتق القتيل، رواه أبو داود.
وإذا ثبت أن هذا مشترك بين جميعهم سقط بإسقاط بعضهم أيهم كان؛ لأن حقه منه له فينفذ تصرفه فيه، فإذا سقط وجب سقوطه جميعه؛ لأنه مما لا يتبعض، فهو كالطلاق والعتق، وروى قتادة أن عمر رفع إليه رجل قتل رجلا، فجاء أولاد المقتول وقد عفا بعضهم، فقال عمر لابن مسعود: ما تقول؟ قال: إنه قد أحرز من القتل، فضرب على كتفه، وقال: كنيف ملئ علما، ولأن القصاص حق مشترك بينهم لا يتبعض ومبناه على الإسقاط، فإذا أسقط بعضهم سرى إلى الباقي كالعتق.
1 -
مسألة 17: فإذا عفا بعضهم فللباقين حقوقهم من الدية سواء أسقط مطلقا أو إلى الدية؛ لأن حقه من القصاص سقط بغير رضاه فثبت له البدل، كما لو مات القاتل، وكما لو سقط حق أحد الشريكين في العبد بإعتاق شريكه.

مسألة 18: (وإن كان العفو على مال فله حقه من الدية، وإلا فليس له إلا الثواب) يعني إذا عفا بعض الورثة عن القصاص على مال فله حقه من الدية إن كان العفو على الدية، وإن كان على أكثر منها جاز وله حقه من ذلك؛ لأنه حقه وله التصرف فيه حسب اختياره، (الثاني: أن يرث القاتل أو بعض ولده شيئا من دمه) كرجل له زوجة وابنان منها

(1/536)


من دمه الثالث: أن يموت القاتل فيسقط وتجب الدية في تركته
(19) ولو قتل واحد اثنين عمدا فاتفق أولياؤهما على قتله بهما قتل بهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
فقتل أحد الابنين أباه، وقتل الآخر أمه فإنه يجب القصاص على قاتل الأم ويسقط عن قاتل الأب؛ لأنه ورث ثمن دمه عن أمه ويلزم سبعة أثمان دية الأب لقاتل الأم، ولو لم يقتل الآخر أمه ولكنها ماتت فإن القصاص يسقط عن قاتل الأب أيضا؛ لأنه يرث من دمه نصف ثمنه والنصف الآخر لأخيه، ويجب عليه لأخيه سبعة أثمان الدية ونصف ثمنها، ولو قتل رجل زوجته وله منها ولد سقط عنه القصاص لثبوته لولده؛ لأنه لو قتل ولده لم يجب عليه قصاص، فإذا ثبت لولده عليه قصاص سقط بطريق الأولى، (الثالث: أن يموت القاتل فيسقط القصاص وتجب الدية في تركته) لفوات محل الحق فيسقط القصاص ضرورة فواته ويراجع إلى الدية كما رجعنا في المتلفات إلى القيمة.

مسألة 19: (ولو قتل واحد اثنين عمدا فاتفق أولياؤهما على قتله بهما جاز) ، وقال أبو حنيفة ومالك: يقتل بالجماعة، ليس لهم إلا ذلك، وإن طلب بعضهم فليس له، وإن بادر أحدهم فقتل سقط حق الباقين؛ لأن الجماعة يقتلون بالواحد فكذلك يقتل بهم؛ كالواحد بالواحد، وقال الشافعي: لا يقتل إلا بواحد، سواء اتفقوا على الطلب للقصاص أو لم يتفقوا؛ لأنه إذا كان لكل واحد استيفاء القصاص فاشتراكهم في المطالبة لا يوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق، ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل» وظاهر الخبر أن أهل كل قتيل يستحقون ما يختارونه من القتل أو الدية، فإذا اتفقوا على القتل وجب لهم، وإن اختار بعضهم الدية وجبت له بظاهر الخبر، ولأنهما جنايتان، ولو كانتا خطأ أو إحداهما لم يتداخلا فلم يتداخلا في العمد كالأطراف، وقد سلموا أن الأطراف لا تتداخل، ولأنه حق تعلق بعينه حقان لا يتسع لهما معا فإذا رضيا به عن حقهما جاز ذلك، كما لو قتل عبد عبدين لهما خطأ فرضيا بأخذه بدلا عنهما، ولأنهما رضيا بدون حقهما فجاز كما لو رضي صاحب اليد الصحيحة بالشلاء وولي الحر بالعبد وولي المسلم بقتل الكافر، وما ذكره مالك وأبو حنيفة فليس بصحيح، فإن الجماعة قتلوا بالواحد لئلا يؤدي الاشتراك إلى إسقاط القصاص تغليظا

(1/537)


، (21) 20 وإن تشاحوا في استيفاء المستوفى قتل بالأول وللثاني الدية
(21) فإن سقط قصاص الأول فلأولياء الثاني استيفاؤه
(22) ويستوفى القصاص بالسيف في العنق، ولا يمثل به إلا أن يفعل شيئاً فيفعل به مثله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
للقصاص، وفي مسألتنا ينعكس هذا المعنى، فإنه إذا قتل واحدا وعلم أن القصاص واجب عليه وأنه لا يزداد بزيادة القتل لهما فأدى إلى قتل من يريد قتله لزوال الزاجر عنه فافترقا.
1 -
مسألة 20: فإن تشاحوا في المستوفي أولا قدم الأول؛ لأن حقه أسبق وصار الآخر إلى الدية لفوات المحل، أشبه ما لو مات فإنه يصار إلى الدية، فإن كان قتلهم دفعة واحدة أقرع بينهم، فيقدم من تقع له القرعة لتساوي حقوقهم، وكذلك لو قتلهم متفرقا وأشكل.

مسألة 21: (فإن سقط قصاص الأول) إما بأن عفا مطلقا أو اختار الدية (فلأولياء الثاني استيفاؤه) ؛ لأنه حقهم فكان لهم استيفاؤه كما لو لم يكن قتل غيره.

مسألة 22: (ويستوفى القصاص بالسيف في العنق، ولا يمثل به إلا أن يفعل شيئا فيفعل به مثله) ، أما إذا قتله فإن القصاص يستوفى بالسيف، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قود إلا بالسيف» رواه ابن ماجه، فأما إن كان قد قطع يدي شخص ورجليه ثم ضرب عنقه قبل أن تندمل جراحه ففيه روايتان: إحداهما: لا يستوفى منه إلا بالسيف في العنق بدليل الخبر؛ ولأن القصاص أحد بدلي النفس فيدخل الطرف في حكم الجملة كالدية، فإنه لو صار الأمر إلى الدية لم تجب إلا دية النفس، ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل الكل وإتلاف الجملة، وقد أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز تعديته بإتلاف أطرافه، كما لو قتله بسيف كال فإنه لا يقتله بمثله، والرواية الأخرى: قال: إنه لأهله أن يفعلوا به كما فعل، يعني أن يقطع أطرافه ثم يقتله؛ لقوله سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ، وقوله سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رضخ رأس يهودي لرضخه رأس جارية بين حجرين» ، وقال الله سبحانه:

(1/538)


باب الاشتراك في القتل وتقتل الجماعة بالواحد
(23) فإن تعذر قتل أحدهم لأبوته أو عدم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، وهذا قد قلع عينه فيجب أن تقلع عينه للآية، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه» ؛ لأن القصاص موضوع على المماثلة، ولفظه مشعر به، فيجب أن يستوفى منه مثل ما فعل، كما لو ضرب العنق آخر غيره، فأما حديث: «لا قود إلا بالسيف» فقد قال الإمام أحمد: إسناده ليس بجيد.

[باب الاشتراك في القتل]
(وتقتل الجماعة بالواحد) روي ذلك عن عمر وعلي والمغيرة وابن عباس، وعن أحمد رواية أخرى لا يقتلون به وتجب عليهم الدية روي ذلك عن ابن عباس، قال ابن المنذر: لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد، ولنا إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فروى سعيد بن المسيب أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلا، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قتل جماعة بواحد، ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف؛ ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف، ولأنه لو سقط القصاص بالاشتراك لأفضى إلى التسارع إلى القتل وإسقاط حكمة الردع والزجر، وإنما يجب القود إذا فعل كل واحد منهم فعلا لو انفرد به وجب عليه القود، فإذا اشتركوا وجب عليهم جميعهم.

مسألة 23: (فإن تعذر قتل أحدهم لأبوته أو عدم مكافأة القتيل له أو العفو عنه قتل شركاؤه) أما إذا تعذر قتل أحدهم لأبوته كما إذا اشترك في القتل أب وأجنبي قتل الأجنبي، وعنه لا يقتل شريك الأب؛ لأنه مشارك من لا قصاص عليه فلم يجب عليه قصاص كشريك الخاطئ. ولنا أنه مشارك في القتل العمد العدوان لمن لم يقتل به لو انفرد فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي، وأما شريك الخاطئ ففيه روايتان: إحداهما:

(1/539)


(24) مكافأته للقتيل أو العفو عنه (25) قتل شركاؤه
(26) وإن كان بعضهم غير مكلف (27) أو خاطئا لم يجب القود على واحد منهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
يجب عليه كمسألتنا، وفي الأخرى: لا قصاص عليه؛ لأن القتل لم يتمحض عمدا لوجود الخطأ في الفعل الذي حصل به خروج النفس، بخلاف شريك الأب فإن قتلهما عمد محض وعدوان، وإنما سقط القصاص عن الأب لمعنى فيه مختص به فأشبه ما لو سقط عن أحد الأجنبيين للعفو عنه.
1 -
مسألة 24: وأما إذا تعذر قتل أحدهما لعدم مكافأة القتيل له كما إذا اشترك مسلم وذمي في قتل ذمي أو حر وعبد في قتل عبد عمدا فإن القصاص يجب على العبد والذمي؛ لأن سقوطه عن المسلم لمعنى فيه وهو الإسلام، وسقوطه عن الحر لعدم المكافأة، وهذا المعنى لا يتعدى إلى شريكه ولا إلى فعله فلم يقتض سقوط القصاص عن شريكه.
1 -
مسألة 25: وأما إذا تعذر قتل أحد الشريكين للعفو عنه فإن القصاص يجب على شريكه؛ لأن سقوطه عنه للعفو عنه، وهو معنى لا يتعدى إلى شريكه فلم يسقط عنه القصاص.

مسألة 26: (وإن كان بعضهم غير مكلف أو خاطئا لم يجب القود) ، أما إذا كان الشريك في القتل غير مكلف كالصبي والمجنون والآخر مكلفا لم يجب القود على المكلف في صحيح المذهب، وعنه يجب عليه؛ لأن القصاص يجب عليه جزاء لفعله لا عن فعل غيره فيجب أن يكون الاعتبار بفعله، فمتى تمحض عمدا أو عدوانا وجب القود إذا كان المقتول مكافئا له، وإنما يسقط عن الصبي والمجنون لمعنى فيهما وهو عدم التكليف فلم يقتض سقوطه، عن شريكهما كشريك الأب، ولنا أنه شارك من لا إثم عليه في فعله فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ، أو شارك من رفع عنه القلم فأشبه شريك الخاطئ، ودليل ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» الحديث، ودل على أن الأصل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» ؛ ولأن الصبي والمجنون لا قصد لهما صحيح، ولهذا لا يصح إقرارهما فكان حكم فعلهما حكم الخطأ.
1 -
مسألة 27: وإن كان شريك العامد مخطئا فلا قود على واحد منهما، أما المخطئ فلا قصاص عليه؛ لقوله سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي

(1/540)


(28) وإن أكره رجل على القتل فقتل، (29) أو جرح أحدهما جرحا والآخر مائة، (30) أو قطع أحدهما من الكوع والآخر من المرفق فهما قاتلان وعليهما القصاص، وإن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
لأمتي عن الخطأ والنسيان» وأجمعوا على أنه لا قود عليه، وأما شريكه فكذلك عند أكثرهم، وعنه: عليه القود؛ لأنه شارك في القتل العمد العدوان فأشبه شريك العامد؛ ولأنه مؤاخذ بفعله وهو عمد عدوان لا عذر له فيه، ولنا أنه قتل غير متمحض عمدا فلم يوجب القود كشبه العمد وكما لو قتله واحد بجرحين عمدا وخطأ.

مسألة 28: (وإن أكره رجل رجلا على القتل فقتل أو جرح أحدهما جرحا والآخر مائة، أو قطع أحدهما يده من الكوع والآخر من المرفق، فهما قاتلان وعليهما القصاص، وإن وجبت الدية استويا فيها) ، أما إذا أكره رجل رجلا على القتل فقتل فالقصاص على المكره والمكره جميعا، أما المكره؛ فلأنه تسبب إلى القتل العمد العدوان فوجب عليه القصاص، كشهود القصاص إذا رجعوا، وأما المكره فإنه قتل من يكافئه ظلما عدوانا فوجب عليه القصاص كما لو لم يكره، والدليل على أنه قتل أنه أخذ السيف وحز الرقبة، ولأن القتل عبارة عن جرح يتبعه الزهوق وقد وجد منه ذلك، ولأنه أثم بذلك فإن عليه إثم القتل، والدليل على أنه عمد أنه قصد الفعل بآلة محصلة له، ولأن الإكراه لم يسلبه اختياره ولا ضعف قصده بل هيج دواعيه وكثرها، ولا يقال: إنه ينزل بمنزلة الآلة، فإن الآلة لا تأثم وهذا يأثم، والآلة ليس لها قصد وهذا له قصد صحيح، فإنه وقى نفسه واستبقاها بقتل أخيه المسلم، فينبغي أن يجب عليه القصاص ويصير كما لو قال له: اقتله وإلا قتلتك غدا فقتله فإنه يجب عليه القصاص.
1 -
مسألة 29: وأما إذا جرح أحدهما جرحا والآخر مائة فإنه يجب عليهما القصاص إذا مات المجروح، وإن صار الأمر إلى الدية فهما فيها سواء؛ لأنه يجوز أن يموت من الجرح دون الجراحات فسقط اعتبار عددها، ولأن الجراح إذا صارت نفسا أوجبت دية واحدة، كما لو قطع يده فمات، ولو كانت إحدى الجراحتين أعمق من الأخرى مثل أن تكون إحداهما موضحة والأخرى مأمومة فمات منهما فالقود عليهما؛ لأن ذلك لا يمنع من تساويهما، كما لا يمنع زيادة عدد الجراحات.
1 -
مسألة 30: وإن قطع أحدهما من الكوع والآخر من المرفق فمات وجب القود

(1/541)


وجبت الدية استويا فيها
(31) وإن ذبحه أحدهما ثم قطع الآخر يده أو قده نصفين فالقاتل الأول، وإن قطعه أحدهما ثم ذبحه الثاني قطع القاطع وذبح الذابح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
عليهما، وقال أبو حنيفة: لا قصاص على الأول، ويجب على الثاني؛ لأنه قطع سراية الأول فمات بعد زوال جنايته فأشبه ما لو اندمل جرحه ثم مات، ولنا أن قطع الثاني لا يمنع جناية بعدها فلا يمنع جناية قبلها، كما لو قطع يده الأخرى، وما ذكره فغير مسلم، فإن الألم الحاصل بقطع الأول لم يزل، وإنما زاد، ويخالف الاندمال فإنه لا يبقى معه الألم الذي حصل في الأعضاء الشريفة فاختلفا.

مسألة 31: (وإن ذبحه أحدهما ثم قطع الآخر يده أو قده نصفين فالقاتل الأول، وإن قطعه أحدهما ثم ذبحه الثاني قطع القاطع وذبح الذابح) ، وذلك أنه إذا جنى عليه اثنان جنايتين نظرنا فإن كانت الجناية الأولى أخرجته من حكم الحياة مثل أن أخرج ما في بطنه فأبانه، أو قطع حلقومه ومريئه، ثم ضرب عنقه الثاني أو قطع يده أو قده نصفين، فالأول هو القاتل؛ لأنه لا يبقى مع جنايته حياة، والقود عليه خاصة، وعلى الثاني التعزير كما لو جنى على ميت، وإن عفا الولي إلى الدية فهي على الأول وحده، وإن كان جرح الأول يجوز بقاء الحياة معه مثل شق البطن من غير إبانة أو قطع عضو كاليد والإصبع، ثم ضرب عنقه آخر، فالثاني هو القاتل؛ لأنه لم يخرج بجرح الأول من حكم الحياة، فيكون الثاني هو المفوت لها فعليه القصاص في النفس، ثم ينظر في جرح الأول فإن كان موجبا للقصاص كقطع الطرف فالولي مخير بين قطع طرفه أو العفو على دية الطرف أو العفو مطلقا، وإن كان لا يوجب القصاص كالجائفة وغيرها فعليه الأرش، وإنما جعلنا له القصاص أو الأرش؛ لأن فعل الثاني قطع سراية الأول فصار كالمندمل، ولو كان جرح الأول يفضي إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به عن حكم الحياة وتبقى معه الحياة المستقرة مثل جرح يخرق المعاء فضرب عنقه الثاني، فالقاتل هو الثاني؛ لأن حكم الحياة ثابت فيه، ألا ترى أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما دخل عليه الطبيب فسقاه لبنا فخرج نصله فعلم الطبيب أنه ميت، فقال له: اعهد إلى الناس، فعهد إليهم وأوصى وجعل أمر الخلافة إلى أهل الشورى فقبلت الصحابة عهده وأجمعوا على قبول وصاياه، فلما كان حكم الحياة باقيا كان مفوتها هو القاتل كما لو قتل عليلا به علة قاتلة.

(1/542)


(32) وإن أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل القصاص على المباشر ويؤدب الآمر، وإن أمر من لا يعلم تحريمه به أو لا يميز فالقصاص على الآمر
(33) وإن أمسك إنسانا للقتل قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 32: (فإن أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل فالقصاص على المباشر، ويؤدب الآمر. وإن أمر من لا يعلم تحريمه به أو لا يميز فالقصاص على الآمر) ؛ لأنه إذا كان غير عالم تحريم القتل فهو معتقد لإباحته، وذلك شبهة تمنع القصاص كما لو اعتقده صيدا فرماه فبان إنسانا، ولأن حكمه القصاص الزجر ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة، وإذا لم يجب عليه وجب على الآمر؛ لأنه آلة لا يمكن إيجاب القصاص عليه، فوجب على المتسبب به؛ كما لو أنهشه حية أو ألقاه في زبية أسد فقتله، ويؤدب المأمور، قال الإمام أحمد: يضرب ويؤدب، قال علي: ويستودع السجن، ويفارق هذا ما إذا علم حظر القتل فإن القصاص على المأمور لإمكان إيجابه عليه وهو مباشر له فانقطع حكم الآمر كالدفع مع الحافز، ويكون على الآمر الأدب لتعديه بالتسبب إلى القتل.
وإن أمر بالقتل من لا يميز كصبي أو مجنون فالقصاص على الآمر؛ لأن المأمور ليس له قصد صحيح؛ لكونه غير مميز فهو كالآلة.

مسألة 33: (فإن أمسك إنسانا للقتل فقتل، قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت) أما القاتل فإنه يقتل بغير خلاف، وأما الممسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه، وإن أمسكه له ليقتله عالما بذلك مثل أن ضبطه له حتى ذبحه، فاختلفت الرواية عن الإمام أحمد: فروي عنه أنه يحبس حتى يموت، وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعنه: يقتل أيضا؛ لأنه لو لم يمسكه لم يقدر على قتله، وبإمساكه تمكن من قتله، فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص كما لو جرحاه، وقيل: يعاقب ويأثم ولا يقتل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أعدى الناس على الله تعالى من قتل غير قاتله» ، والممسك غير قاتل، ولأن الإمساك سبب غير ملجئ، فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضمان على المباشر كالدافع والحافز، ولنا ما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أمسك الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك» ؛ ولأنه حبسه

(1/543)


باب القود في الجروح يجب القود في كل عضو بمثله، فتؤخذ العين بالعين
(34) والأنف بالأنف
(35) وكل واحد من الجفن والشفة
(36) واللسان
(37) والسن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت، ليكون مثلا لما أتى به كما لو حبس رجلا عن الطعام والشراب حتى مات، فإننا نفعل به ذلك حتى يموت.

[باب القود في الجروح]
(يجب القود في كل عضو بمثله، فتؤخذ العين بالعين) ، أجمع أهل العلم على ذلك؛ لقوله سبحانه: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] ، ولأنها تنتهي إلى مفصل فيجري القصاص فيها كاليد.

مسألة 34: (والأنف بالأنف) أجمعوا على ذلك؛ لقوله سبحانه: {وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} [المائدة: 45] والمعنى الذي سبق في العين.

مسألة 35: ويجب القود في كل واحد من الجفن بمثله) ؛ لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ؛ ولأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل، ولا فرق بين جفن الأعمى والبصير في ذلك؛ لأنهما تساويا في السلامة من النقص، وعدم البصر نقص في غيره فلم يمنع القصاص فيه، كما أن عدم السمع لم يمنع القصاص في الأذن، (وتؤخذ الشفة بالشفة) ، وهي ما جاوز جلد الذقن والخدين علوا أو سفلا، للآية والمعنى الذي سبق.

مسألة 36: (ويؤخذ اللسان باللسان) ؛ للآية والمعنى، ولا نعلم فيه خلافا، ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرس؛ لأنه أفضل، ويؤخذ الأخرس بالناطق؛ لأنه بعض حقه.

مسألة 37: (ويؤخذ السن بالسن) أجمع أهل العلم على ذلك؛ لقوله سبحانه: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] ؛ ولأن القصاص في السن ممكن؛ لأنها محدودة في نفسها فوجب فيها القصاص كالعين، وتؤخذ الصحيحة بالصحيحة، والمكسورة تؤخذ بالصحيحة؛ لأنه يأخذ بعض حقه ويأخذ معها من الدية بقدر ما انكسر منها على قول ابن حامد، وعلى قياس قول أبي بكر لا ينبغي أن يجب مع القصاص شيء.

(1/544)


(38) واليد والرجل
(39) والذكر
(40) والأنثيين بمثله
(41) وكذلك كل ما أمكن القصاص فيه
(42) ويعتبر كون المجني عليه مكافئا للجاني، وكون الجناية عمداً، والأمن من التعدي بأن يقطع من مفصل أو حد ينتهي إليه كالموضحة التي تنتهي إلى العظم، فأما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 38: (وتؤخذ اليد باليد والرجل بالرجل) ؛ لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ؛ ولأن لهما حدا ينتهيان إليه وهو المفصل فيجري فيهما القصاص كبقية الأعضاء.

مسألة 39: (ويؤخذ الذكر بالذكر) لا نعلم بين أهل العلم خلافا في ذلك؛ لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ؛ ولأنه له حد ينتهي إليه ويمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب القصاص فيه كاليد، ولا فرق بين ذكر الصغير والكبير والشاب والشيخ والذكر الكبير والصغير؛ لأن كل ما وجب القصاص فيه من الأطراف لم يفرق فيه بين هذه المعاني كاليد والرجل.

مسألة 40: (وتقطع الأنثيان بالأنثيين) ؛ للآية والمعنى.

مسألة 41: (وكذلك كل ما أمكن القصاص فيه) للنص والمعنى.

مسألة 42: (ويعتبر كون المجني عليه مكافئا للجاني) ، وذلك أن القصاص فيما دون النفس معتبر له ثلاثة شروط:
أحدها: كون المجني عليه مكافئا للجاني، فإن لم يكن مكافئا كالعبد إذا قطع الحر طرفه أو الذمي إذا قطعه المسلم لا يقطع طرفه بطرفه؛ لأنه إذا لم تؤخذ نفسه بنفسه لعدم المكافأة فوجب أن لا يؤخذ طرفه بطرفه لعدم المكافأة.
الثاني: (أن تكون الجناية عمدا) ، فإن كانت خطأ لم يجب القصاص بغير خلاف، وإن كانت عمدا خطأ، مثل أن يضربه بحجر صغير لا يوضح مثله فأوضحه لم يجب القصاص؛ لأنه شبه عمد، ولا يجب القصاص إلا بالعمد المحض، وقال أبو بكر: يجب القصاص، ولا يراعى فيه ذلك؛ لعموم الآية.
الثالث: (الأمن من التعدي) بحيث يمكن الاستيفاء بغير حيف، فإن كان قطع طرف (فبأن يكون من مفصل، وإن كان جرحا فبأن ينتهي إلى عظم كالموضحة) وما عدا هذا كالجائفة، وما دون الموضحة من الشجاج أو فوقها أو قطع طرف من غير مفصل كقطع اليد من الساعد أو العضد أو الرجل من الساق أو الفخذ فلا قصاص فيه عند أكثرهم؛ لأنه

(1/545)


كسر العظام والقطع من الساعد والساق فلا قود فيه
(43) ولا في الجائفة
(44) ولا في شيء من شجاج الرأس إلا الموضحة إلا أن يرضى مما فوق الموضحة بموضحة
(45) ولا قود في الأنف إلا من المارن وهو ما لان منه
(46) ويشترط التساوي في الاسم والموضع فلا تؤخذ واحدة من اليمنى واليسرى والعليا والسفلى إلا بمثلها
(47) ولا تؤخذ إصبع ولا أنملة ولا سن إلا بمثلها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
لا يمكن المماثلة فيها ولا تؤمن الزيادة عليها، ولا يمكن أن يستوفى أكثر من الحق فسقط القصاص كما لو قتل من لا يكافئه أو قطع صحيح اليد بشلاء أو ناقصة الأصابع، (فأما كسر العظام والقطع من الساعد والساق فلا قود فيه) لما ذكرنا.

مسألة 43: (ولا قود في الجائفة) ولا المأمومة لذلك.

مسألة 44: (ولا قود في شيء من شجاج الرأس لذلك إلا الموضحة) ؛ لأنها تنتهي إلى العظم (إلا أن يرضى بما فوق الموضحة) بموضحة؛ لأنه يأخذ دون حقه كمن يأخذ الشلاء بالصحيحة وقد أمن الضرر.

مسألة 45: (ولا قود في الأنف إلا من المارن وهو ما لان منه) دون قصبة الأنف؛ لأن ذلك حد ينتهي إليه فهو كاليد يجب القصاص فيها إلى الكوع، وإن قطع القصبة كان له القصاص في المارن وحكومة في القصبة على قول ابن حامد، وعلى قياس قول أبي بكر ليس له قصاص؛ لأنه لا يجيز الاقتصاص من غير محل الجناية، ولا يجمع في عضو واحد بين دية وقصاص.

مسألة 46: (ويشترط التساوي في الاسم والموضع، فلا يؤخذ واحد من اليمنى واليسرى والعليا والسفلى إلا بمثلها) ، وقيل تؤخذ إحداهما بالأخرى؛ لأنهما تستويان في الخلقة والمنفعة، ولنا أن كل واحدة منهما تختص باسم فلا تؤخذ إحداهما بالأخرى؛ كاليد مع الرجل، فعلى هذا كل ما ينقسم إلى يمين ويسار كاليدين والرجلين والأذنين والمنخرين لا يؤخذ أحدهما بالآخر لما ذكرناه، وما انقسم إلى أعلى وأسفل كالجفنين والشفتين والأسنان لا يؤخذ الأعلى بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى لما ذكرنا.

مسألة 47: (ولا تؤخذ إصبع بإصبع) إلا أن يتفقا في الاسم والموضع (ولا تؤخذ أنملة بأنملة) إلا أن يتفقا في ذلك، ولا تؤخذ عليا بسفلى ولا وسطى وكذلك الوسطى

(1/546)


(48) ولا تؤخذ كاملة الأصابع بناقصة
(49) ولا صحيحة بشلاء
(50) وتؤخذ الناقصة بالكاملة
(51) والشلاء بالصحيحة إذا أمن التلف
فصل: إذا قطع لسانه أو مارنه أو شفته أو حشفته أو أذنه أخذ مثله بقدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
والسفلى لا يؤخذان بغيرهما، (ولا يؤخذ السن بالسن) إلا أن يتفق موضعهما واسمهما، ولا يؤخذ سن ولا إصبع أصلية بزائدة ولا زائدة بأصلية ولا زائدة بزائدة في غير محلها لما ذكرناه.

مسألة 48: (ولا تؤخذ كاملة الأصابع بناقصة) لأنها فوق حقه، والقصاص يعتمد المماثلة.

مسألة 49: (ولا تؤخذ صحيحة بشلاء) ؛ لأنه يأخذ كاملا بناقص، وذلك فوق حقه.

مسألة 50: (وتؤخذ الناقصة بالكاملة) فإذا كانت يد القاطع، ناقصة إصبعا أو أكثر فالمجني عليه مخير بين أخذ دية يده وبين قطع الناقصة؛ لأنها دون حقه ويأخذ أرش الأصابع المقطوعة على قول ابن حامد، وقياس قول أبي بكر ليس له مع القطع أرش لئلا يجمع بين قصاص ودية في عضو.

مسألة 51: (وتؤخذ الشلاء بالصحيحة إذا أمن التلف) فإن كان القاطع أشل والمقطوعة سالمة فاختار المجني عليه دية يده فله ذلك لا نعلم فيه خلافا؛ لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص فكانت له الدية كما لو لم يكن للقاطع يد، وإن اختار القصاص فله ذلك؛ لأنه رضي بدون حقه، اللهم إلا أن يخاف من القصاص التلف؛ لقول أهل الخبرة إنه إذا قطع لم تنسد العروق ودخل الهواء إلى البدن فأفسده فإنه يسقط القصاص، ولأنه لا يجوز أخذ نفس بطرف، وإن أمن هذا كله فله القصاص وليس له أرش معه؛ لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما نقصت عنها في الصفة فلم يكن له أرش كما لا يأخذ ولي المسلم مع القصاص من الذمي أرشا لنقص الكفر، وقال أبو الخطاب: عندي أنه يأخذ أرش الشلاء مع القصاص على قياس قوله في عين الأعور إذا قلعت، والأول أصح؛ لأن إلحاق الفرع بالأصول المتفق عليها أولى من إلحاقه بفرع مختلف فيه خارج عن الأصول.

[فصل فيما إذا قطع بعض لسانه أو مارنه أو شفته]
(فصل: وإذا قطع بعض لسانه أو مارنه أو شفته أو حشفته أو أذنه أخذ مثله بقدر

(1/547)


الأجزاء كالنصف والثلث ونحوهما
(52) وإن أخذت ديته أخذ بالقسط منها
(53 وإن كسرت بعض سنه برد من سن الجاني مثله إذا أمن انقلاعها
(54) ولا يقتص من السن حتى ييأس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الأجزاء) ؛ لأنه أمكن القصاص في جميعه فأمكن في بعضه كما في السن يقدر ذلك في الأجزاء، أو يؤخذ منه بالحساب، فإذا قطع ربع لسانه أخذ من لسان الجاني ربعه، وإن قطع نصفه أخذ نصفه أو ثلثه أخذ ثلثه وكذلك سائرها، ولا يؤخذ شيء من ذلك بالمساحة لما يأتي.

مسألة 52: (وإن أخذ ديته أخذ بالقسط منها) يعني إن قطع الجاني نصف اللسان أخذ منه نصف ديته وإن كان أكثر أو أقل فبالحساب، وكذلك سائرها.

مسألة 53: (وإن كسر بعض سنه برد من سن الجاني مثله إذا أمن انقلاعها) ، وذلك لأن القصاص جاز في بعض السن؛ «لأن الرُّبَيِّع كسرت سن جارية، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقصاص» ، وما جرى القصاص في جملته جرى في بعضه إذا أمكن كالأذن، فيقدر ذلك بالأجزاء، فيؤخذ النصف بالنصف والثلث بالثلث وكل جزء بمثله، ولا يؤخذ ذلك بالمساحة كي لا يفضي إلى أخذ جميع سن الجاني ببعض سن المجني عليه، ويكون القصاص بالبرد ليؤمن أخذ الزيادة، فإنا لو أخذناها بالكسر لم يؤمن أن يتصدع أو ينقلع أو ينكسر من غير موضع القصاص، ولا يؤخذ بعضها قصاصا حتى يقول أهل الخبرة: إنه يؤمن انقلاعها أو السداد فيها؛ لأن توهم الزيادة يمنع القصاص في الأعضاء كما لو قطعت يده من غير مفصل.

مسألة 54: (ولا يقتص من السن حتى ييأس من عودها) بأن يكون قد أثغر أي سقطت رواضعه ثم نبتت، فإذا سقطت قيل: ثغر، فإذا نبتت قيل: أثغر، فإن قلع سن من لم يثغر لم يقلع سن الجاني في الحال؛ لأنها تعود بحكم العادة، وما يعود لا يجب ضمانه كالشعر، وينظر فإن عاد بدل السن في محلها على صفتها فلا شيء على الجاني، وإن عادت مائلة عن محلها أو متغيرة عن صفتها كان عليه حكومة؛ لأنها لو لم تعد ضمن السن، فإذا عادت ناقصة ضمن ما نقص، وإن عادت قصيرة ضمنه بالحساب: ففي نصفها نصف ديتها، وفي ربعها ربع ديتها، وكذلك على هذا، وإن مضى زمان عودها ولم تعد سئل أهل العلم بالطب، فإن قالوا: قد يئس من عودها فالمجني عليه بالخيار بين القصاص

(1/548)


من عودها
(55) ولا من الجرح حتى يبرأ
(56) وسراية القود مهدرة
(57) وسراية الجناية مضمونة بالقصاص والدية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أو دية السن، فأما إن قلع سن من قد أثغر فقال القاضي: سئل أهل العلم والخبرة، فإن قالوا: لا تعود أبدا، فله القصاص في الحال، وإن قالوا: يرجى عودها إلى وقت ذكروه، لم يقتص حتى يأتي ذلك الوقت، فإن لم تعد وجب القصاص، وإن عادت لم يجب قصاص ولا دية؛ لأنها سن عادت فسقط أرشها كسن من لم يثغر، فإن كان أخذ الأرش رده، وإن كان استوفى القصاص فقد بان أنه كان غير مستحق له؛ لأن القصاص لم يجب عليه؛ لأنه لم يقصد التعدي، وعليه الدية لأنه أخذ ما لا حق له فيه.

مسألة 55: (ولا يقتص من الجرح حتى يبرأ) ؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح» ، والنهي يقتضي التحريم؛ لأن الجرح لا يدرى أقتل هو أم ليس بقتل، فينبغي أن ينتظر ليعلم ما حكمه وما الواجب فيه.

مسألة 56: (وسراية القود مهدرة) ، ومعناه أنه إذا قطع طرفا يجب القود فيه فاستوفى منه المجني عليه ثم مات الجاني بسراية الجرح لم يلزم المستوفي شيء، روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولما روي أن عمر وعليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: " من مات من حد أو قصاص لا دية له، الحق قتله " وروى سعيد نحوه، ولأنه قطع مستحق مقدر فلا يضمن سرايته كقطع السارق.

مسألة 57: (وسراية الجناية مضمونة) بغير خلاف؛ لأنها أثر الجناية والجناية مضمونة فكذلك أثرها، ثم إن سرت إلى النفس وجب القصاص فيه ولا خلاف في ذلك، وإن قطع إصبعا فشلت يدها أو إصبع إلى جانبها وجب القصاص في المقطوعة ووجب الأرش فيما شل، إذا ثبت هذا فيجب الأرش في ماله ولا يجب على العاقلة؛ لأنه سراية جناية عمد، وإنما لم يجب القصاص لعدم التماثل في القطع والشل، وإذا شل جميع كفه فعفى عن القصاص استحق نصف الدية في اليد، وإن استوفى من الإصبع كان له أربعون من الإبل في الأصابع الأربع ويتبعها أربعة أخماس الكف، فأما خمسة الكف الذي يختص الإصبع التي اقتص منها ففيه وجهان: أحدهما: يتبعها في الأرش فلا يستحق فيه شيء،

(1/549)


(58) إلا أن يستوفي قصاصها قبل برئها فيسقط ضمانها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
والثاني: لا يتبع ويجب الحكومة، لأن ما يقابل الأربع يتبعها في الأرش؛ لاستوائهما في الحكم، فأما إذا اقتص فحكمها مختلف وتجب فيه الحكومة.

مسألة 58: (إلا أن يستوفي قصاصها قبل برئها فيسقط ضمانها) ؛ لما روى جابر «أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته، فقال: يا رسول الله أقدني، قال: حتى تبرأ، فعجل، فاستقاد له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتعيبت رجل المستقيد وبرأت رجل المستقاد منه، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ليس لك شيء، إنك عجلت» رواه سعيد مرسلا، ورواه الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه «ثم جاء الثالثة فقال: يا رسول الله عرجت، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله ومعطل عرجك» ثم نهى أن يقتص من عرج حتى يبرأ صاحبه، وهو دليل على سقوط حقه.
1 -
مسألة 59: عجيبة: إذا قلع سن إنسان فقلع الإنسان سن الجاني ثم عادت سن المجني عليه فقلعها الجاني ثانيا، فلا شيء على واحد منهما؛ لأن سن المجني عليه لما عادت وجب عليه دية سن الجاني، فإذا قلعها الجاني وجب عليه ديتها فيصير لكل واحد منهما دية سن على الآخر فيقاصان.
 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق